غاب عن المسلمين الخطاب النفسي العلمي التربوي السليم الذي لابد منه لبناء نفسية الطفل المسلم، فأدى هذا الغياب إلى خلل في تكوين البعد النفسي الوجداني الإسلامي السليم لديه، مما جعله ينمو إنسانا بالغا مفتقدا لدفع البعد الوجداني الفعّال اللازم لتحريك الطاقة وبذل الجهد وتوفير الأداء الإيجابي "أي الإرادة" الذي يعدّ شرطا ضروريا لتملك القدرة على التصدي للتحديات التي تواجه الأمة والمجتمع بشكل ناجح فعّال.
فماذا ننتظر من فاقد ما هو ضروري لتصحيح الانحرافات التي توجد في الذات، وفي المجتمع؟ إنه خلل في منهج الفكر، فهذا الغياب هو الذي يفسر عدم قدرة الإنسان المسلم، والأمة المسلمة– حتى يومنا هذا– على الاستجابة لمتطلبات مشروع الإصلاح الحضاري الإسلامي، وتصحيح الانحرافات، وضم الصفوف وإتقان الأداء، على الرغم من سلامة غايات هذا المشروع ونبله وتوافر الوعي المعرفي بأهدافه وجل متطلباته لدى البالغين من أبناء الأمة الإسلامية؛ لذلك يتأكد أن خلل الخطاب التربوي نجم عن القصور والتشوّه المنهجي للفكر الإسلامي؛ وانجرّ عنه عزل قادة الفكر الإسلامي النيّر واعتزالهم ممارسة الحياة السياسية والاجتماعية، والتمرس بها، ومعرفة أسبابها وكنه خباياها، ودراستها، وفحصها والبحث العلمي في قضاياها.
لقد كان ذلك سببا في تشوه الرؤية الكلية الإسلامية مما أدى إلى ضمور وغياب المعرفة الإنسانية في إدراك السنن والطبائع الكونية والإنسانية والوقائع الزمانية، والمكانية، وتسخيرها بشكل عملي فعّال في إدارة سياسة الأمة وتدبير شؤونها، من أجل تحقيق مقاصد الهداية الإلهية الكلية للإنسان على هدي وعلم وبصيرة.
هذا كله جعل المعرفة الإنسانية في السنن والطبائع قد انتهت إلى عقلية المتابعة الآبائية ثم العجز عن إدراك طبيعة المتغيرات وتفاعل عواملها، وافتقاد القدرة على التعامل معها في تركيب النفس البشرية وتنميتها وإعدادها في مختلف مراحل الطفولة التي تتشكل من خلالها نوعية الدوافع النفسية الوجدانية والمفاهيم المعرفية المنهجية، التي تطبع عقلية أعضاء المجتمع ونفسيتهم ووجدانهم، وتصبح فيهم طبعا أصيلا "إرادة" يصدر عنه فهمهم واستجابتهم لما يدور حولهم من أحداث وما يتصدون له من تحديات.
ومما زاد في تفاقم الأمر ما أصاب منهج الفكر الإسلامي من خلل حيث غيب فيه البعد المعرفي الشمولي التحليلي الذي يتعلق بمعرفة "السنن الإلهية" أي ما يطلق عليه في الفكر المادي الغربي "القوانين الطبيعية" وهي التي يشير إليها قول النبي صلى الله عليه وسلم "فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا" رواه البخاري.
أي للتربية والتنشئة أسس نفسية هي سنن وقوانين إلهية وحسب طرق التعامل معها تحدد نوعية البناء النفسي للفرد، وعلى أساسها تتبلور نوعية الفرد ويتشكل معدنه وطاقاته، ومنها: الشجاعة والجبن، والأمانة، والخيانة، وقوة الإرادة وضعفها، وما إلى ذلك. وهي التي تسخر اجتماعيا في اتجاه ما حسب الرؤية الكونية الاجتماعية لكل أمة ومجتمع، فشجاعة الجندي تسخر في سبيل الدفاع عن الأمة والوطن، وشجاعة المجرم تسخر للأذى والإضرار بالناس.
فمن خلل منهج التفكير ضعف الوعي بأهمية العلم النظري والتجريبي للتكوين النفسي للإنسان، ودور الطفولة فيه، ونوعية الخطاب النفسي التربوي المناسب لكل مرحلة من مراحل تلك الطفولة، وأثر ذلك في تكوين البناء النفسي اللازم للفرد المسلم، من أجل توفير الدوافع الوجدانية النفسية اللازمة له حتى تكون الناشئة أداة فعالة في الإصلاح والتغيير وتصحيح الرؤية الكلية الاجتماعية، وإزالة الانحرافات الناجمة عنها واستعادة الإرادة والقدرة على إتقان الأداء ومواجهة التحديات بشكل إيجابي فعال.
لا يظن البعض أن تخلف الأمة يقتصر على ضعفها وتمزقها وعجزها وما أصابها من نوازل، وما تعانيه من محن ومظالم، بل يتجاوز ذلك إلى حجب نور رسالة الإسلام العالمية وهدايته الكلية الروحية الأخلاقية توحيدا واستخلافا وإخاء، وسلاما، وعدالة، ورحمة إلى الإنسان. مما يعوق رسالة الإسلام عن أن تصبح رحم حضارة حقيقية، وسعادة روحية ومادية وخيرا في الأولى والآخرة.
لقد قال أحد العلماء في العلاقات الدولية "إن حجب الرسالة المحمدية الإسلامية الحضارية الكونية في عصر اكتمال مكونات عالية دنيا الإنسان وإمكاناته، وفي وقت هو أشد ما يكون حاجة إلى هداية رسالة "العالمين" التوحيدية الاستخلافية القائمة على الإخاء والعدل والإحسان والرحمة والتراحم، تلك الرسالة الخالية من التمايز المنزهة عن الاستكبار والتظالم "الذي خلقكم من نفس واحدة" "النساء آية 1" "ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد" رواه أحمد في مسنده، و"إن الله يأمر بالعدل والإحسان" "النحل آية 90" "وتواصوا بالحق" "العصر آية 3" "وتواصوا بالمرحمة" "البلد آية 17" "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" "الحجرات آية 13".
إن حجب هذه الرسالة وهذه الهداية يعد جناية عظمى يقع وزرها على الأمة الإسلامية عامة، وعلى مثقفيها وقادة الفكر فيها خاصة قبل أي أحد آخر سواهم في العالمين، إن ما أصاب الإنسانية– بسبب استعلاء الرؤية الكونية المادية الجاهلية العنصرية– من عالمية الحروب والصراعات والتظالم ومآسي "الاستعمار" يميل إلى أن يكون أشد حدة وأكثر ظلما وقسوة.
وستتعاظم هذه المظالم بتعاظم وسائل القوي وأدواته، في عالم نفسية التمايز وجشع المادة وقسوة المنافسة واستكبار الأقوياء". ثم يقول "أما خسارة الأمة الإسلامية، وانحسار دورها الحضاري وهي التي تعدل خمس الإنسانية جمعاء، فهي خسارة كبرى في تاريخ الإنسانية، لأنها وريثة حضارة عظمى، هي رحم كل خير، ومنطلق كل تقدم في حضارة العصر.
ولأنها حاملة أعظم رسالة سماوية "خيّرة" "موثقة" في تاريخ الإنسان والعالم، أعادت تشكيل وجهته وطاقاته بما قدمته من الرؤية والقيم والمبادئ الربانية الروحانية الأخلاقية، وما هدت إليه وصنعته من بدائع العلوم ومنطلقات الحضارة؛ فليس من العقل ولا من العدل والحكمة، ولا من الخير أن يصبح سواد أبناء هذه الأمة الشاهدة من أشد أبناء الإنسانية عجزا وفاقة ومعاناة وحاجة، وأن تقع شعوبها فريسة لظلمات الفقر والجهل والمرض والقهر والمظالم". وهذا يدعو إلى استعادة فهم القرآن كما أنزل وإدراك مسيرته التاريخية.