علاقة العقل بالدين
"لا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكفّ، ولا حسب كحسن الخلق" حديث حسن رواه ابن ماجه عن أبي ذرّ. يقول الطيبي "أراد بالتدبير العقل المطبوع" وقال القيصري "هو خاطر الروح العقلي وهو خاطر التدبير لأمر المملكة الإنسانية؛ فالنظر في جميع الخواطر الواردة عليه من جميع الجهات، ومنه تؤخذ الفهوم والعلوم الربانية وهذا الشخص هو الملك وإليه ترجع أمور المملكة كلها فيختار ما أمره الشرع أن يتركه ويستحسن ما أمره الشرع أن يستحسنه ويستقبح ما أمره أن يستقبحه وصفة خاطر هذا الملك التثبت والنظر في جميع ما يرد عليه من الخواطر فينفذ منها ما يجب تنفيذه ويرد ما يجب رده.
وخواطر هذا الجوهر الشريف وإن كثرت ترجع إلى ثلاثة أنواع: الأمر بالتنزه عن دني الأخلاق والأعمال والأحوال ظاهرا وباطنا، والأمر بالاتصاف بمحاسن الأخلاق والأعمال والأحوال وأعاليها، كذلك والأمر بإعطاء جميع أهل مملكته حقوقهم وتنفيذ الأحكام الشرعية فيهم".
"ولا ورع كالكف" الورع في الاصل الكف ويقال ورع الرجل يرع "بالكسر" فيهما فهو ورع؛ ثم استعير للكف عن المحارم. فإن قيل: فعليه الورع هو الكف، فكيف يقال الورع كالكف؟ قلنا الكف إذا أطلق فُهم منه كف الأذى أو كف اللسان..".
"ولا حسب كحسن الخلق" أي لا مكارم مكتسبة كحسن الخلق مع الخلق، فالأول عام والثاني خاص، وعن علي رضي الله عنه "التوفيق خير قائد وحسن الخلق خير قرين، والعقل خير صاحب، والأدب خير ميراث ولا وحشة أشد من العجب".
وأحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام عن العقل كثيرة ومنها: ما روي عن جابر "دين المرء عقله. ومن لا عقل له لا دين له" لأن العقل هو الكاشف عن مقادير العبودية ومحبوب الله ومكروهه وهو الدليل على الرشد والناهي عن الغي، وكلما كان حظ العبد من العقل أوفر فسلطان الدلالة فيه أبعد، فالعاقل من عقل عن الله أمره ونهيه فاتمر بما أمره، وانزجر عما نهاه، فتلك علامة العقل وصورة العبادة قد تكون عادة ومن ثم كان المصطفى صلى الله عليه وسلم إذا ذكر له عبادة رجل سأل عن عقله.
وما رواه البيهقي عن سعيد بن المسيب "رأس العقل بعد الإيمان بالله التودد إلى الناس وما يستغني رجل عن مشورة وإن أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة وإن أهل المنكر في الدنيا هم أهل المنكر في الآخرة".
فالمقصد كما أشار الغزالي مع حفظ الدين على من ابتلى بمخالطة الناس مداراتهم ما أمكن ويقطع الطمع عن مالهم وجاههم ومعونتهم فإن الطامع خائب غالبا، وإذا سألت واحدا بحاجة فقضاها فاشكر الله عليها وإن قصر فلا تعاتبه ولا تشكه فتصير عداوة وكن كالمؤمن يطلب المعاذير ولا تكن كالمنافق تطلب العيوب وقل لعله قصر لعذر لم أطلع عليه وإذا أخطأوا في مسألة وكانوا يأنفون من التعلم فلا تعلمهم فإنهم يستفيدون منك علما ويصبحون لك أعداء إلا إن تعلق بإثم يفارقونه عن جهل فاذكر الحق بلطف بغير عنف ولا تعاتبهم ولا تقل لهم لم تعرفوا حقي وأنا فلان بن فلان وأنا الفاضل في العلوم فإن أشدّ الناس حماقة من يزكي نفسه، فإن من اكتفى برأسه ضل ومن استغنى بعقله ذل ومن ثم قال حكيم: "المشورة باب رحمة ومفتاح بركة لا يضل معها رأي ولا يفقد معها حزم" وقال بعض الحكماء "الخطأ مع الاسترشاد أجمل من الصواب مع الاستبداد".
وما رواه البيهقي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه "رأس العقل بعد الدين التودد إلى الناس واصطناع الخير إلى كل بر وفاجر" لهذا قال الحكماء "اتسعت دار من يداري وضاقت أسباب من يماري" وقال أحدهم "أما أنا فلا أماري صاحبي، فإما أن أغضبه وإما أن أكذبه" وقال في شرح الرسالة العضدية "والتودد طلب مودة الأكفاء والأمثال وأهل الفضل والكمال وأنشد: فإذا أردت مودة تحظى بها * فعليك بالأكفاء والأمثال"
قال "ومودة الأراذل تورث ذلة، ومودة العلماء تورث عزا".
هذه الأحاديث وصفت قيمة العقل وأهميته في العقيدة والدين، وفي العلاقات بين الناس بمختلف طباعهم وسلوكياتهم وأقصد بذلك كما ورد في قاموس مصطلحات الأتنولوجيا والفلكلور لـ"إيكه هولنكرانس" "مجموعة الأنماط السلوكية التي يحملها التراث وتعيش في الجماعة وتنبعث عن الوعي الموحد لهذه الجماعة.
وانطلاقا من هذا الوعي يعد كل فرد منها أن ممارستها مفيدة وهي ترتكز على الامتثال الاجتماعي المعياري على نحو ما وعلى التراث التاريخي أيضا وهي في الأخير متطلبات سلوكية تعيش على ميل الفرد لأن يمتثل لأنواع السلوك الشائعة عند الجماعة وكذلك على ضغط الرفض الجماعي لمن يخالفها".
إن العاقل المتشبّع بالقيم المنزّلة من رب العزة الذي علّم الانسان ما لم يعلم وأشعره بفقره إليه واحتياجه إلى خالقه... يدرك بتوفيق من الله تعالى الفرق بين الحق والباطل، وبين الصواب والخطإ، وبين الخير والشر، وبين المعروف والمنكر، وبين الصدق والكذب وبين الدين الحق القويم والدين الباطل المنحرف، وبين الاسلام شكلا ومضمونا، وبين الاسلام شكلا لا مضمونا.
هذا العاقل البصير يميز بدقة هذا التقابل في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم".
ولهذا عدّ من أعظم أنواع الصبر الصبر على مخالطة الناس وتحمل أذاهم وأن يكون المؤمن سميعا لحق الناس، أصم عن باطنهم نطوقا بمحاسنهم صموتا عن مساوئهم. قال الذهبي "مخالطة الناس إذا كانت شرعية فهي من العبادة وغاية ما في العزلة التعبد، فمن خالطهم بحيث اشتغل بهم عن الله وعن السنن الشرعية فذا بطال فليفر منهم" وهناك خلاف بين العزلة والمخالطة لكن العالم بدقائق الحلال والحرام أولى له المخالطة للناس ليعلمهم وينصحهم في دينهم.