لا شك أنه قد بذلت جهود حثيثة على مدار التاريخ الإسلامي في الرد على أهل الكتاب وإثبات فساد عقيدتهم والتحريف الذي في كتبهم ،كان منها جهود العلامة ابن حزم في كتابه الرائع (الفصل في الملل والنحل) وكتاب العلامة رحمة الله هندي (إظهار الحق) وكتاب العلامة الشيخ أبو زهرة (محاضرات في النصرانية) ثم الجهود المباركة التي أحياها الشيخ أحمد ديدات ومن بعده خليفته الرائع الدكتور ذاكر نايك والذي هو ظاهرة فذة قلما تتكرر في الزمان ومع ذلك فيكاد يكون غير معروف في العالم العربي المسلم.
هذا غيض من فيض من جهود المسلمين الحثيثة في مخاطبة وجدال أهل الكتاب كما أمر الله تعالى:
(وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْـزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْـزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (العنكبوت/46)
ولكن في المقابل لا نجد هناك جهوداً مشابهة قد توجهت لخطاب الكفار من الملحدين الذين ينكرون الخلق والبعث والحساب واللأدريين الذين يشكون في الأمر ولا يوجد لديهم.. حسب زعمهم.. دليل يحسم مسألة الإيمان والكفر. ولعل السبب في ذلك أن بعض المسلمين قد ظنوا أن هذا النوع من الكفر كان ممثلاً في كفار قريش ولم يعد له وجود في هذا الزمان.. ولكن الحقيقة أنهم مازالوا موجودين بل يقدر عددهم.. ويا للعجب.. بنحو نصف سكان الأرض.. بعضهم ملحدين (Atheists) وبعضهم شاكين أو لا أدريين (Agnostics) والتقدير المتداول لعددهم في دولة مثل الولايات المتحدة يبلغ نحو 10% من السكان علماً بأن بعض من ينتسبون بحسب ولادتهم إلا عائلات مسيحية أو يهودية هم في الحقيقة من أحد هذين النوعين وهم لا يخجلون من ذكر عقيدتهم إذا سئلوا عنها إعمالاً لحرية الفكر والعقيدة التي نشئوا عليها كما يزعمون. والدارس للشبهات الواهية لكلتا الطائفتين (الملحدين واللأدريين) يجد أن هناك ملاحظات تتعلق بعقيدتهم والجدال معهم نذكرها فيما يأتي:
1- أنه لا فرق بين الشبهات التي أثاروها والشبهات التي كان يثيرها كفار مكة.
2- أنهم ليس لهم كتاب لتوضح لهم فساده ولا يؤمنون بكتابك لتستدل عليهم به. فليس هناك بديل عن محاججتهم بالأدلة العقلية.
3- أن القراَن الكريم قد ذكر عموم حججهم مع الرد العقلي عليها فهو خير معين على جدالهم بالأدلة الدامغة.
ولا شك أن العقيدة السليمة هي أساس الدين. و أن اعتماد القراَن الكريم للأدلة العقلية في محاججتهم وعدم اكتفائه بتقرير الحق والإعراض عما هم عليه من الباطل لهو منهج جدير بالدراسة واستخلاص العبر والدروس. ونورد هنا الأدلة العقلية التي ساقها القراَن الكريم للرد على ثلاثة مسائل هي في الحقيقة جوهر العقيدة ألا وهي مسائل الخلق والوحدانية والبعث. ونورد فيه المباحث الآتية:
أولاً: أدلة الخلق
ينكر الملحدين أن هناك خالقاً قد خلقهم، ويتوقف اللأدريين في المسألة ويدعون أن الأمر محتمل ولكن لايوجد دليل يحسم المسألة، والله تعالى يرد على هؤلاء وأولئك بقوله تعالى في اَية جامعة معجزة:
(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ، أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ) (الطور/35-36)
ثلاث حجج عقلية يواجه بها القراَن الكريم كلتا الطائفتين فيخيرهم بينها جميعا :
1- هل خُلقتم من لا شيء، وهل يمكن إعطاء مثال على شيء في الوجود وجد من لا شيء. إن هذا أصلاً بخلاف قوانين الكون التي نحيا عليه.
2- هل أنتم خالقون لأنفسكم.
3- هل أنتم الذين خلقتم السموات والأرض.
إن العقل السليم لا يستطيع بحال أن يجيب بإجابة تخالف النفي (لا) على الأسئلة الثلاثة. فإن لم تكن خُلقت من لا شيء، ولا أنت الذي خلقت نفسك، ولا أنت الذي خلق السموات والأرض، فإن هناك خالقاً لهذا الكون، أظهر لنا في جميل صنعته كمال قدرته، وخلق الكون على بناءٍ واحد ليقر بوحدانيته، وأرسل الرسل وأنزل الكتب لنعرفه بأسمائه وصفاته، وتودد إلينا وهو الغني عنا، وأخبرنا بفرحه بنا إن عصينا فتبنا فأنبنا، فهل نرغب عن هذا الرب الخالق البارئ المصور ونحيا في أوهام الخيالات لنصحو على الحسرة والندم.
ثانياً: أدلة وحدانية الله تعالى
إن الخالق الكريم الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد قد رد في كتابه العظيم رداً حاسماً ينير العقول ويأخذ بالألباب على من أدعى أن هناك آلهة غير الله تعالى لها في الكون نصيب وفي تدبيره منزلة، وذلك من وجهين:
الأول: أن من يدعي ذلك عليه أن يأتي بالدليل، وهيهات قال تعالى:
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلا غُرُورًا) (فاطر/40)
فهي دعوى بلا برهان، وطلب البرهان من المخالف هي قاعدة قرآنية مضطردة يجب إتباعها مع أصحاب الدعاوى.
والثاني: هو دعوة أصحاب العقول السليمة إلى تصور نتيجة هذا الزعم الفاسد:
(لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ )(الأنبياء/22)
ولك أن تقلب الأمر على كل وجه في هذا الكون لترى ببصيرتك صور هذا الفساد لو ادعينا جدلاً حدوث هذا الفرض المستحيل.
والجميل، أنه كلما تقدم الإنسان في العلم، ظهرت دلائل جديدة للوحدانية، وكأن لهذه الصفة الجليلة طابعاً يطبع كل ذرات الكون وكل خلايا المخلوقات الحية بخاتم التوحيد. ألسنا نرى الوحدانية في قوانين علوم الحياة سواء في قوانين الخلية أو قوانين المادة الوراثية كذلك في قوانين الفيزياء من الذرة إلى المجرة.
ففي قوانين علم الحياة: بنيت جميع الكائنات الحية على قاعدة الخلية وبنيت جميع المادة الوراثية من أربعة أحرف حتى بات العلماء ينقلون الجينات من نبات إلى آخر أو حتى من نبات إلى حيوان؟ وما ذلك إلا لأن الخالق واحد.
وفي قوانين الفيزياء: كل ذرات الكون قد بنيت على نسق واحد. من أبسط الذرات التي يدور فيها إليكترون واحد حول بروتون واحد إلى أثقل الذرات المعروفة وكل قوانين الفيزياء ثابتة على امتداد الكون حتى بات من الممكن حساب كل مسألة في الكون بنفس القوانين.
ويزداد الأمر وضوحاً حين يضرب الله تعالى المثل (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (الزمر/29)
ماذا لو كان إله الشمس غير إله الأرض، وحاشا لله، فأقام لها قوانين لا نفهمها أو بدل اليوم لها قانون غير قانون الأمس، ألم تكن الحياة على الأرض لتضطرب ثم تنعدم، وهل يترك خالق الأرض خالق الشمس يعبث بأهل الأرض أم يتقاتل الجبابرة فيهلك الخلق مثل خرافات وأساطير آلهة اليونان في القديم. وكيف كان لخالق الأرض أن يقول في كتابه لأهل الأرض (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ) (الرحمن/5) إن لم يكن له الخلق والأمر وليس معه في الكون شريك ولا نصير. ولذلك فقد نفى الله تعالى كل شبهه في هذه الآية المعجزة:
رب الأرض يطالب بعبادتك له بحق أنه خلقك ورزقك وسخر لك ما في الأرض جميعاً، ورب الشمس يطلب منك عبادته أكثر من رب الأرض لأنه لو حرمك ضوء الشمس لهلكت. أرأيت نعمة التوحيد ونعمة أن الله واحد لا شريك له في خلقه ولا في ملكه (الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ)(العنكبوت/63)
إن الأمر في ذاته مع أنه دليل على الوحدانية فإنه نعمة تستحق الشكر، لأن الله تعالى ليس له ولد ولا شريك ولا ولي من الذل، وأنظر إلى هذا القيد المبهر (من الذل) ليخرج منه أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين يحبهم ويحبونه، أّذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين. أليس هذا الإله بمستحق للتفرد بالعبادة والتودد بالحب.
(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ) (الإسراء/111)
وقد تكررت آيات القراَن الكريم التي تقرر الوحدانية في النفوس وتنزع أدني شبهة قد تطرأ على ذهن أحد من البشر بدلالة تفرد الله تعالى بالخلق والأمر وعدم إدعاء أحد أنه خلق في هذا الكون شيئاً:
فقد رد الله تعالى علي كل من ادعي وجود الشريك بما لا يستطيعون له جواباً ويستحقون علي فعله عقاباً، قال تعالى:
فنعتهم بالظلم ووصف حالهم بأنهم ليس لهم برهان ولا دليل على ما يفترون.
(قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) (الرعد/16)
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الأحقاف/4)
(إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى ) (النجم/23)
(وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ) (المؤمنون/117)
[img][/img]
هذا غيض من فيض من جهود المسلمين الحثيثة في مخاطبة وجدال أهل الكتاب كما أمر الله تعالى:
(وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْـزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْـزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (العنكبوت/46)
ولكن في المقابل لا نجد هناك جهوداً مشابهة قد توجهت لخطاب الكفار من الملحدين الذين ينكرون الخلق والبعث والحساب واللأدريين الذين يشكون في الأمر ولا يوجد لديهم.. حسب زعمهم.. دليل يحسم مسألة الإيمان والكفر. ولعل السبب في ذلك أن بعض المسلمين قد ظنوا أن هذا النوع من الكفر كان ممثلاً في كفار قريش ولم يعد له وجود في هذا الزمان.. ولكن الحقيقة أنهم مازالوا موجودين بل يقدر عددهم.. ويا للعجب.. بنحو نصف سكان الأرض.. بعضهم ملحدين (Atheists) وبعضهم شاكين أو لا أدريين (Agnostics) والتقدير المتداول لعددهم في دولة مثل الولايات المتحدة يبلغ نحو 10% من السكان علماً بأن بعض من ينتسبون بحسب ولادتهم إلا عائلات مسيحية أو يهودية هم في الحقيقة من أحد هذين النوعين وهم لا يخجلون من ذكر عقيدتهم إذا سئلوا عنها إعمالاً لحرية الفكر والعقيدة التي نشئوا عليها كما يزعمون. والدارس للشبهات الواهية لكلتا الطائفتين (الملحدين واللأدريين) يجد أن هناك ملاحظات تتعلق بعقيدتهم والجدال معهم نذكرها فيما يأتي:
1- أنه لا فرق بين الشبهات التي أثاروها والشبهات التي كان يثيرها كفار مكة.
2- أنهم ليس لهم كتاب لتوضح لهم فساده ولا يؤمنون بكتابك لتستدل عليهم به. فليس هناك بديل عن محاججتهم بالأدلة العقلية.
3- أن القراَن الكريم قد ذكر عموم حججهم مع الرد العقلي عليها فهو خير معين على جدالهم بالأدلة الدامغة.
ولا شك أن العقيدة السليمة هي أساس الدين. و أن اعتماد القراَن الكريم للأدلة العقلية في محاججتهم وعدم اكتفائه بتقرير الحق والإعراض عما هم عليه من الباطل لهو منهج جدير بالدراسة واستخلاص العبر والدروس. ونورد هنا الأدلة العقلية التي ساقها القراَن الكريم للرد على ثلاثة مسائل هي في الحقيقة جوهر العقيدة ألا وهي مسائل الخلق والوحدانية والبعث. ونورد فيه المباحث الآتية:
أولاً: أدلة الخلق
ينكر الملحدين أن هناك خالقاً قد خلقهم، ويتوقف اللأدريين في المسألة ويدعون أن الأمر محتمل ولكن لايوجد دليل يحسم المسألة، والله تعالى يرد على هؤلاء وأولئك بقوله تعالى في اَية جامعة معجزة:
(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ، أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ) (الطور/35-36)
ثلاث حجج عقلية يواجه بها القراَن الكريم كلتا الطائفتين فيخيرهم بينها جميعا :
1- هل خُلقتم من لا شيء، وهل يمكن إعطاء مثال على شيء في الوجود وجد من لا شيء. إن هذا أصلاً بخلاف قوانين الكون التي نحيا عليه.
2- هل أنتم خالقون لأنفسكم.
3- هل أنتم الذين خلقتم السموات والأرض.
إن العقل السليم لا يستطيع بحال أن يجيب بإجابة تخالف النفي (لا) على الأسئلة الثلاثة. فإن لم تكن خُلقت من لا شيء، ولا أنت الذي خلقت نفسك، ولا أنت الذي خلق السموات والأرض، فإن هناك خالقاً لهذا الكون، أظهر لنا في جميل صنعته كمال قدرته، وخلق الكون على بناءٍ واحد ليقر بوحدانيته، وأرسل الرسل وأنزل الكتب لنعرفه بأسمائه وصفاته، وتودد إلينا وهو الغني عنا، وأخبرنا بفرحه بنا إن عصينا فتبنا فأنبنا، فهل نرغب عن هذا الرب الخالق البارئ المصور ونحيا في أوهام الخيالات لنصحو على الحسرة والندم.
ثانياً: أدلة وحدانية الله تعالى
إن الخالق الكريم الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد قد رد في كتابه العظيم رداً حاسماً ينير العقول ويأخذ بالألباب على من أدعى أن هناك آلهة غير الله تعالى لها في الكون نصيب وفي تدبيره منزلة، وذلك من وجهين:
الأول: أن من يدعي ذلك عليه أن يأتي بالدليل، وهيهات قال تعالى:
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلا غُرُورًا) (فاطر/40)
فهي دعوى بلا برهان، وطلب البرهان من المخالف هي قاعدة قرآنية مضطردة يجب إتباعها مع أصحاب الدعاوى.
والثاني: هو دعوة أصحاب العقول السليمة إلى تصور نتيجة هذا الزعم الفاسد:
(لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ )(الأنبياء/22)
ولك أن تقلب الأمر على كل وجه في هذا الكون لترى ببصيرتك صور هذا الفساد لو ادعينا جدلاً حدوث هذا الفرض المستحيل.
والجميل، أنه كلما تقدم الإنسان في العلم، ظهرت دلائل جديدة للوحدانية، وكأن لهذه الصفة الجليلة طابعاً يطبع كل ذرات الكون وكل خلايا المخلوقات الحية بخاتم التوحيد. ألسنا نرى الوحدانية في قوانين علوم الحياة سواء في قوانين الخلية أو قوانين المادة الوراثية كذلك في قوانين الفيزياء من الذرة إلى المجرة.
ففي قوانين علم الحياة: بنيت جميع الكائنات الحية على قاعدة الخلية وبنيت جميع المادة الوراثية من أربعة أحرف حتى بات العلماء ينقلون الجينات من نبات إلى آخر أو حتى من نبات إلى حيوان؟ وما ذلك إلا لأن الخالق واحد.
وفي قوانين الفيزياء: كل ذرات الكون قد بنيت على نسق واحد. من أبسط الذرات التي يدور فيها إليكترون واحد حول بروتون واحد إلى أثقل الذرات المعروفة وكل قوانين الفيزياء ثابتة على امتداد الكون حتى بات من الممكن حساب كل مسألة في الكون بنفس القوانين.
ويزداد الأمر وضوحاً حين يضرب الله تعالى المثل (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (الزمر/29)
ماذا لو كان إله الشمس غير إله الأرض، وحاشا لله، فأقام لها قوانين لا نفهمها أو بدل اليوم لها قانون غير قانون الأمس، ألم تكن الحياة على الأرض لتضطرب ثم تنعدم، وهل يترك خالق الأرض خالق الشمس يعبث بأهل الأرض أم يتقاتل الجبابرة فيهلك الخلق مثل خرافات وأساطير آلهة اليونان في القديم. وكيف كان لخالق الأرض أن يقول في كتابه لأهل الأرض (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ) (الرحمن/5) إن لم يكن له الخلق والأمر وليس معه في الكون شريك ولا نصير. ولذلك فقد نفى الله تعالى كل شبهه في هذه الآية المعجزة:
رب الأرض يطالب بعبادتك له بحق أنه خلقك ورزقك وسخر لك ما في الأرض جميعاً، ورب الشمس يطلب منك عبادته أكثر من رب الأرض لأنه لو حرمك ضوء الشمس لهلكت. أرأيت نعمة التوحيد ونعمة أن الله واحد لا شريك له في خلقه ولا في ملكه (الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ)(العنكبوت/63)
إن الأمر في ذاته مع أنه دليل على الوحدانية فإنه نعمة تستحق الشكر، لأن الله تعالى ليس له ولد ولا شريك ولا ولي من الذل، وأنظر إلى هذا القيد المبهر (من الذل) ليخرج منه أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين يحبهم ويحبونه، أّذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين. أليس هذا الإله بمستحق للتفرد بالعبادة والتودد بالحب.
(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ) (الإسراء/111)
وقد تكررت آيات القراَن الكريم التي تقرر الوحدانية في النفوس وتنزع أدني شبهة قد تطرأ على ذهن أحد من البشر بدلالة تفرد الله تعالى بالخلق والأمر وعدم إدعاء أحد أنه خلق في هذا الكون شيئاً:
فقد رد الله تعالى علي كل من ادعي وجود الشريك بما لا يستطيعون له جواباً ويستحقون علي فعله عقاباً، قال تعالى:
فنعتهم بالظلم ووصف حالهم بأنهم ليس لهم برهان ولا دليل على ما يفترون.
(قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) (الرعد/16)
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الأحقاف/4)
(إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى ) (النجم/23)
(وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ) (المؤمنون/117)
[img][/img]