منتدى صناع النجاح

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

مرحبا بجميع التلاميذ إلى هذا الفضاء من أجل التحاور والتشاور وتبادل الأراء والمعلومات


    عناية الإسلام بالذوق السليم

    avatar
    fertoune
    زائر


    عناية الإسلام بالذوق السليم Empty عناية الإسلام بالذوق السليم

    مُساهمة  fertoune الإثنين فبراير 16, 2009 9:31 am

    الذوقُ كلمةٌ جميلة مُوْحِيَةٌ تَحْمِلُ في طياتها معاني اللطفِ، وحُسْنِ المعشر، وكمالِ التهذيبِ، وحسنِ التصرفِ، وتجنبِ ما يمنع من الإحراج وجرح الإحساسات بلفظ، أو إشارة أو نحو ذلك.
    فهذه المعاني وما جرى مجراها تُفَسِّرُ لنا كلمة الذوقِ، وإن لم تفسرها المعاجمُ بهذا التفسير الملائم لما تعارف عليه الناس، وجرى بينهم مجرى العرف؛ فتراهم إذا أرادوا الثناء على شخص بما يحمله من المعاني السابقة قالوا: فلان عنده ذوق، أو هو صاحب ذوق.
    وإذا أرادوا ذمَّه قالوا: فلان قليل الذوق، أو ليس عنده ذوق، وهكذا...
    فالذوق بهذا الاعتبار داخلٌ في المعنويات أكثر من دخوله في الحسِّيات كذوق الطعام والشراب.
    وموطن الذوق في المعنويات يدور حول العقل، والروح، والقلب.
    وموطنه في عالم الحسيات لا يتجاوز اللسان، أو إحساس البدن بالملائم أو المنافر.
    ولعلَّ لفظَ الذوقِ يَعْتَوِرُه ما يعتور بعضَ الألفاظِ في دلالتها، من حيث تطورُها، وانحطاطها؛ فهو بالمفهوم الذي مرَّ ذكره معنى سامٍ راقٍ.
    ونصوص الوحيين -وإن لم تُشر للذوق بهذا اللفظ- حافلةٌ بما يرعاه، ويُعلي منارَه، ويحذر مما ينافيه.
    ولو ألقيت نظرةً عامةً عَجْلى على شرائع الإسلام، وأصوله العظام كالصلاة والزكاة، والحج والصيام - لرأيت ذلك رأي العين.
    أليس المسلمُ مأموراً حالَ إتيانه للصلاة أن يكونَ على طهارة، وأن يأخذ زينته عند كل مسجد، وأن يأتي وعليه السكينة والوقار؟ وأن يخفض صوته حال مناجاته لربه؟
    أليس منهياً عن رفع الصوت في المسجد، وعن أن يأتي وقد أكل ثوماً أو بصلاً أو نحو ذلك مما يتأذَّى منه المصلون؟
    ألم يكن من أدب الزكاة أن تُعطى للفقير خُفْيةً، وعلى وجه يرفع خسيسته، ولا يصدع قناة عزته؟
    ألم يُؤمرِ الحجاجُ بالسكينة، ولزوم التؤدة، وترك أذية إخوانهم؟
    أليس الصيامُ من أعظم ما يُرهف الحس، ويرتقي بالذوق، ويسمو بالروح؟
    أليس فيه شعور بالآخرين، وإحساس بما يعانون من عوز الفقر، وذلة الحاجة؟
    ألم تأتِ الأحاديثُ النبويةُ الشريفة منوهةً بخُلوف فَمِ الصائم، وأنه عند الله أطيب من ريح المسك، مع ما فيه من رائحة قد لا تروق؛ جبراً لخاطر الصائم، ونهياً لمن قد يجد في نفسه أذىً من هذه الرائحة، أو كراهة لمن صدرت منه - أن يتفوه بما لا يليق.
    ثم إن الآثار الواردة في معاملة الناس على اختلاف طبقاتهم حافلةٌ بهذا المعنى، دالةٌ دِلالةً صريحةً على مراعاته.
    وقل مثل ذلك في كثير من المناهي؛ فهي تحذر مما ينافي الذوق، أو يضعف جانبه.
    ولا يقف الأمر عند سائر المعاملات حال السلم، بل يتعدى ذلك إلى حال الحرب؛ فيُراعى فيها جانبُ الذوق، وحسنِ المعاملة.
    ولو ألقيت نظرةً في ما جاء في أدب الحرب في الإسلام لرأيت ما يقضي منه عجبك؛ فمن ذلك مجاملةُ رُسُل العدوِّ، وتركُ التعرض لهم بأذى؛ فقد يرسل العدوُّ رسولاً في شأن الصلح أو غيره مما فيه تخفيف شر الحرب؛ فَمِنْ حُسْنِ الرأي أن لا يُتَعَرَّض للرسل بأذى، وأن يكونوا في أمن حتى يعودوا إلى قومهم؛ فإن التعرض لهم بأذى يقطع صلة الرسالة بين الفريقين، ويسد طريق المفاوضات التي يُتَوسَّل بها إلى عدم الدخول في الحرب، أو إنهائها إذا كانت ناشبة.
    ومكارم الأخلاقِ تأبى أن يُتَعَرَّض لرسول بأذى ولو أرسله قومه لإبلاغ ما عزموا عليه من محاربتنا، أو صدر منه كلام في تعظيم أمر قومه بقصد الفخر أو الإرهاب.
    وقد جرى نظام الإسلام في الحرب على هذا الأدب المقبول.
    قَدِمَ أبو رافع -رضي الله عنه- بكتاب من قريش إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما رأى رسول الله ألقِيَ في قلبه الإسلام، فقال: يا رسول الله: إني والله لا أرجع إليهم أبداً، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أما أني لا أخيس بالعهد، ولا أحبسُ البُرُدَ، ولكن ارجع؛ فإن كان في قلبك الذي في قلبك الآن فارجع".
    قال: فرجعت، ثم أقبلت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأسلمت.
    ومن ذلك تجنب قَتْل مَنْ لا يُقَاتِلُ؛ فالإسلام يحرم قَتْلَ نساء المحاربين، وصبيانهم، والطاعنين في السن منهم، ورهبانهم إن لم يحاربوا.
    روى عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن قتل النساء والصبيان.
    وروى ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه -عليه الصلاة والسلام- كان إذا بعث جيوشاً، قال: "لا تقتلوا أصحاب الصوامع" يعني الرهبان.
    وقال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- في وصيته لجيش أسامة -رضي الله عنه-: "وسوف تمرون بأقوام قد فرّغوا أنفسهم في الصوامع؛ فدعوهم وما فرّغوا أنفسهم له".
    وقال: "ولا تقتلوا طفلاً، ولا شيخاً كبيراً، ولا امرأة".
    ومن وصايا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لأمراء الجيش: "ولا تقتلوا هرِماً، ولا امرأة، ولا وليداً، وتوقوا قتلهم إذا التقى الزحفان، وعند شن الغارات".
    ويلحق بهؤلاء في تجنب قتلهم المريضُ، والمقعدُ، والأعمى، والمجنون.
    وكذلك روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- النهي عن قتل العسيف، وهو الأجير.
    وبهذا يظهر أن الإسلام إنما يَقْصِدُ من الحربِ قِتَالَ مَنْ يَقْصِدون لأن يُقَاتِلوا، ولا يصح القَصْد لقتل من ليس شأنه القتال.
    ومن ذلك حسن معاملة الأسرى؛ فإذا وقعت طائفة من العدو المحارب في أسرنا لم يجز لأحد من الجنود أو غيرهم أن يمسهم بأذى، وإنما يرجع أمرهم إلى رأي ولي الأمر الواسع الخبرة بوجوه المصالح، فيعاملهم بما تقتضيه خطة الحزم، وما تمليه سماحة الأخلاق.
    وذهب من علماء السلف الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح -رحمهم الله- إلى أن ولي الأمر يخير في الأسرى بين أن يطلقهم على وجه المن، أو يطلقهم بفداء، وتمسكوا في هذا بقوله: (فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) محمد:4.
    فهذه إشارات سريعة تدل على عناية الإسلام بهذا الجانب.
    وكتب التفسير، والفقه، والأحكام، والآداب مليئة بما يقرر هذا المعنى.
    وهكذا نجد أن الإسلام يرتقي بذوق أهله، وينأى بهم عن كل خُلُقٍ أو تَصَرُّفٍ يعاكس سلامةَ الذوقِ، أو يوهي حبالها.
    ومع ذلك كله فإنك تلحظ خللاً كبيراً في هذا الجانب، وتشهد مظاهر عديدة من هذا القبيل تَمُرُّ بك كثيراً في حياتك اليومية.
    وقد يكون ذلك الخلل أو المظهر صغيراً في عين من يقع فيه، ولكنه يُحدث فساداً عريضاً، وربما لا يبقى للمودة عيناً ولا أثراً.
    فجديرٌ بالمسلم العاقل أن يرعى هذا الجانبَ، وحقيقٌ عليه أن يحذر مما ينافيه من الجفاء، والكزازة، والغلظة وما جرى مجرى ذلك.

    وإن من علامات السعادة للإنسان أن يرزق ذوقاً سليماً مهذباً؛ فإنه إذا كان كذلك عَرَفَ كيف يستمتعُ بالحياة، وكيف يحترمُ شعورَ الآخرين ولا ينغص عليهم، بل يدخل السرور عليهم؛ فصاحب الذوق السليم قادرٌ على استجلاب القلوب، وإدخال السرور على نفسه وعلى من حوله.
    وإذا ساد الذوق السليم في أسرة أو مجتمع رأينا كلَّ فرد من هؤلاء يتجنب جرح إحساس غيره بأي لفظ، أو عمل، أو إشارة، أو أي شيء يأباه الذوق.
    ورأينا كل فرد يقوم بما أسند إليه من مسؤولية على أكمل وجه وأتمه.
    إن الذوق السليم في الإنسان يرفعه إلى حد أن يتخير الكلمة اللطيفة، والتصرف الملائم الذي يمنع الإحراج، ويدخل السرور على الآخرين.

      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة مايو 10, 2024 9:10 am